الربتان النائحتان: (إيزيس و نفتيس)
كانت إيزيس هى زوجة أوزير وشقيقته وبالمصرية القديمة "است" وتعنى (مستقر أو مقعد أو عرش) وعلى ذلك يبدو أن إسمها كان تجسيداً لعرش أوزير الملكى ، وترتدى الكرسى كتاج لها واسماً فى الوقت نفسه ، و ورد ذكرها فى قصة أوزير ، وبقيت محتفظة بصفتها كزوجة وفيه له رغم كل ما عانته ، هذه الشخصية فتنت المصريين وغير المصريين ، فهى صورة مصر ذاتها ، ورفيقة أوزير الرائعة التى عرفت كيف تساند زوجها.
أما أختها الأخرى "نفتيس" فهى تلعب دور مهم فى الأسطورة الأوزيرية فهى رفيقة إيزيس فى رحلتها الشاقة لبعث أوزير بعد معركته الدامية مع أخيه ست ، ولهذا تبدو فى كتاب الموتى كشريكة مع إيزيس فى حماية المتوفى ، وعرفت فى المصرية القديمة بإسم "نبت-حوت" Nebt hut ومعناها (سيدة البيت)
كانت الصورة البدائية للنحيب فى الثقافة المصرية هى أن إيزيس وأختها نفتيس تنحبان وتندبان على أوزير المتوفى ، وفى هذا الصدد يقول المؤلف (وليم نظير) إننا قد ورثنا عادة البكاء على الميت عن إيزيس ، فتلك العادة وما إليها من مظاهر الحزن فى مصر الحديثة باقية من تراث الماضى يتوارثها الناس جيلاً بعد جيل
وفي جزء من أسطورة إيزيس وأوزيريس عندما استطاعت إيزيس جمع أشلاء زوجها المتناثرة وصنعت منها أولى المومياوات بمساعدة نفتيس وأنوبيس وانتقل أوزير بعد ذلك إلى عالم الأموات حيث تم دفنه على أنغام مراثى إيزيس ونفتيس
جاء فى مرثية إيزيس: "تعال نحو بيتك ، تعالى إلى بيتك ... أنت يا من لم يعد له أعداء ، أيها اليافع الجميل ، تعال إلى بيتك لكى ترانى ... أنا أختك التى تحبها ، لا تبتعد عنى أيها اليافع الجميل ... تعالى إلى بيتك أنا لا أراك (و مع ذلك) قلبى يصبو إلى لقياك ، وعيناى تلتمسان رؤياك ... ما أروع أن اتأملك ، تعال إلى من تحبك ، تحبك يا اون نفر، تعالى إلى جوار أختك ، تعال إلى جوار زوجتك ، أنت يا من لم يعد قلبه يخفق! ، تعالى نحو سيدة بيتك ... أنا أختك من نفس الأم ، لا تبتعد عنى ... الآلهة والناس اتجهوا بوجوههم نحوك ، وكلهم يبكونك معاً لأنهم يروننى ، أناديك وأبكيك بحرقة ، حتى أنه (بكائى) يُسمع فى السماء ، ولكن ألا تسمع صوتى؟ ، أنا أختك التى كنت تحبها فى الأرض ، وما كنت تحب أى امرأة (أخرى) غيرى يا أخى ، آه يا أخى (زوجى)"!....
كانت نصوص تلك الباكيات تتواصل فى حوار بين الأختين النائحتين ، يتخللها مقاطع متكررة ترددها ندابات أخريات ، وهناك فى ثنايا تلك المواجع عبارات أقرب إلى أنشودة حب ، كما تتغير نبرة المقاطع التى تترنم بها نفتيس: فهى ليست كلمات زوجة بل عاشقة: "تعال حالاً يا سيدى ، أنت الذى رحلت لكى تقدم على ما يروقك تحت الأشجار ... لقد أبعدت عنى قلبى آلاف الفراسخ ... معك أنت وحدك أرغب فى عمل ما أحب ! ، إذا ذهبت إلى بلد الخلود سأصحبك ، أخاف أن يقتلنى زوجى ... هل تصرف على هذا النحو ملك فى عهده؟ ، لقد جئت من أجل حبى لك ، وأنت تحرر جسمى من حبك" ...
يبدو من قراءة هذه الأنشودة الأخيرة أنها تذكير بغرام أوزير ونفتيس المتبادل ويتضح من ذلك أن تقاليد الندب ومظاهر الحزن فى مصر قديماً وحديثاً ترجع بأصولها إلى اسطورة "أوزيريس" ، إذ عم المصريين حزن عميق لمصرع معبودهم وكانت أختاه إيزيس ونفتيس فى مقدمة المحزونين حيث بكيتا عليه بكاء شديداً
كان تصوير هاتين النائحتين المقدستين على التوابيت بصفة متكررة كمنتحبات ، عند قدم ورأس مومياء أوزير/المتوفى ، فتركع الأولى عند رأسه وتضع يديها عليه وأطلقوا عليها "جرت ورت" أى : (النادبة الكبرى) ، ويقصد بها "إيزيس" ، وتركع الأخرى عند قدميه وتضع يديها على صدرها وأطلقوا عليها "جرت شرت" أى : (النادبة الصغرى) ، ويقصد بها "نبت-حات" (نفتيس) ، وأطلقوا عليهما سوياً إسم "جرتي" أى : (النادبتين) ، تلك هى الصورة المألوفة فى مناظر الجنازة التى تم رسمها فى جداريات المقابر والتوابيت ، ومن الطبيعى أن إيزيس ونفتيس ترأسا الشعائر الجنائزية لإنهما الإلهتان النائحتان ... واذا كان كل متوفى يتمثل فى أوزير فمن العدل أن يكون الميت فى صحبة الأختين الإلهتين تحميانه فى الوقت ذاته ، فالأختين تظهران مراراً جاثيتين عند نهاية الأكفان وعلى التوابيت منتحبتان على المتوفى الذى أصبح رمزياً (أوزيريس) حال موته ، وقد وضعت كلتاهما يدها فوق الجبهة ، أو واقفتين وذراعاهما ممتدتان إلى الأمام ، ويوجد كثير من التماثيل الصغيرة تصور الربتين جاثيتين على ركبتيهما ، وبسبب نوبات البكاء للنساء الناحبات ، فالأختين الربتين غالباً تمثلان "طائر الحدأة" (وهى طيور من الجوارح من المعتاد تواجدها فى منطقة الجبانات حيث تحدث أصوات عالية) ، فقد رمز المصريون إليهم بحدأتين نواحتين ، حيث قيل أن إيزيس روَحت بأجنحتها فهب الهواء ، وَدبت الحياة فى جسـد زوجها الميت "أوزير" ، كما تدعى الأسطورة أنها تحولت إلى طائر لتبحث عن جثة زوجها ، وفى بعض المناظر لإيزيس ونفتيس تصوران كصقر يشبه الحدأة تحطان عند رأس و أرجل المومياء ، ففى مقبرة نفرتارى زوجة "رعمسيس الثانى" صُورت إيزيس ونفتيس على جانبى التابوت كحدأتين ، وفى مقابر بعض أفراد الدولة القديمة صُورت النادبتان إيزيس ونفتيس وهن يشاركن فى الطقوس الجنائزية ، وفى الدولة الوسطى صورت النادبتان فى مقبرة "إنتف إقر" وزير الملك "سنوسرت الأول" ، وقد كانت الصغرى فى مقدمة التابوت ، والكبرى فى مؤخرته ، وذلك أثناء عبور الجثة النيل لتودع فى مقرها الأخير .... وصُورت النادبتان فى كثير من مقابر الأسرة الثامنة عشر على سبيل المثال مقبرة "با حرى" حاكم "الكاب" ، و "أمنمحات" أحد الكتبة فى عهد تحتمس الثالث ، و "رخميرع" وزير هذا الملك ، و "رع مس" الوزير فى عهد أمنحتب الثالث ... وصورتا أيضاً فى بعض مقابر الأسرتين التاسعة عشر والعشرين
كان للنادبتين دور كبير فى الطقوس الجنائزية التى تؤدى للميت منذ وفاته وحتى يتم دفنه ، وتشمل هذه الطقوس عملية التحنيط ، والرحلة إلى مدينة أبيدوس ، وعبور النيل إلى البر الغربى حيث توجد المقبرة ، والموكب الجنائزى ، وأخيراً عملية الدفن.
ففى أثناء تحنيط الميت كانت النادبتان تشاركان فى هذه العملية ، وبعد التحنيط كان على الميت أن يقوم برحلة إلى أبيدوس لزيارة مقام أوزيريس رب العالم الآخر واله الخلود حيث أعتقد المصريون أن إيزيس بعد أن قامت بتجميع أشلائه دفنت رأسه فى هذه المدينة ومن ثم فقد أصبح لها قدسية خاصة دفعت أهل المتوفى إلى أن يقوم موتاهم بزيارة لأبيدوس ليسمح لهم أوزيريس بالدخول فى عالم الآخرة الذى يحكمه ، وكانت هذه الرحلة تتم عبر النيل حيث توضع الجثة فى تابوتها فوق مركب تبحر بها إلى أبيدوس تتبعها مركب أخرى ، وكانت النادبتان ترافقان الميت فى قارب خاص بهما ، وكان يقوم بدورهما بالنسبة للشخص المتوفى أرملته وأخته أو إحدى قريباته ، وأحياناً يستعمل بديلاً عنهما تمثالان يوضعان على سطح القارب ، وكانت إيزيس تتبع التابوت وحدها فى بعض الأحيان
واذا ما وصلت المراكب إلى أبيدوس يوضع الناووس فوق زحافة تجرها الثيران إلى معبد أوزيريس وكانت النادبتان تشاركان فى تأدية الطقوس أمام هذا الإله ، وبعد ذلك ترجع المومياء من أبيدوس لتبدأ رحلتها فى النيل من بره الشرقى إلى بره الغربى حيث توجد المقبرة ، وكانت توضع فى مركب تتبعها مراكب أخرى ، وبجوارها يقبع النسوة من أقارب المتوفى وقد أخذن يندبن ويولولن ، وكانت النادبتان يحرسان مقدمة التابوت ومؤخرته ، وما ان ترسوا المراكب إلى البر الغربى حتى يبدأ الموكب الجنائزى الذى يصل بالميت إلى مقبرته ، ولعل منظر جنازة الوزير"رع مس" من أكمل المناظر فى مصر القديمة ففيه صورت إحدى النادبتين أمام التابوت والأخرى من خلفه وأحياناً تمثالان لهما .
وكان على النادبات طبقاً لنصوص متأخرة أن يطهرن أنفسهن أربع مرات لمدة سبعة أيام فى الذكرى السنوية لتحنيط أوزيريس ، وكن يغسلن أفواههن ويمضغن النطرون ويعطرن أنفسهن بحرق البخور حتى يكون تطبيبهن لأوزيريس طاهر ، وفى نحيبهن فى الساعة الأولى من الليل يقولون: "آه لقد غسلت فمى ومضغطت النطرون وعطرت نفسى بالبخور ... ما أجمل تطويب أوزيريس ، أمام الغربيين"
المنظر المرفق جدارية من مقبرة (روي) يظهر فيها (روي) في هيئة مومياء ينقل إلي مثواه الأخير في قارب على زلاجات تحيطه باقة كبيرة من الزهور على جانبي الضريح وهو مزين بأعمدة جد وعنخ (الحياة) والمتوفى (روي) محمي بواسطة تمثالين في مقدمة ومؤخرة الضريح في حالة رفع اليدين للمعبودتين (إيزيس ونفتيس) في إعادة تمثيل لأحداث موت (أوزوريس) وفقا للاسطورة المصرية القديمة .... ويتبع موكب المتوفي الأقارب والأصدقاء في حالة حداد وأمام الزلاجة التى تحمل قارب المتوفي كاهن (سيم) يرتدى جلد النمر وهو الكاهن المخصص في إقامة طقوس فتح الفم للمتوفي ويقوم الكاهن بالتبخير و إراقة الخمر والماء.
كان (روي) كاتب ملكي في الأسرة 18 في عهد (حورإم حب) ، وتقع في منطقة ذراع أبو النجا بالأقصر ويعود تاريخها إلى عهد الأسرة التاسعة عشر بعد عهد الملك (حورإم حب) آخر ملوك الأسرة 18
تعليقات
إرسال تعليق