لمتابعة مع تميم
تميم البرغوثي | مع تميم - الزَّمَرْكَل
والزمركل يا أعزك الله لص خيول عاش في شمال الشام في الأعوام المائة الأولى من الحروب الصليبية. ويبدو، حسب الوصف الذي أورده له الأمير مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن منقذ الكناني الشيزري، في كتاب الاعتابر، أنه كان في ثلاثينيات القرن الثاني عشر شيخاً كبيراً، يعاني من عاهة في إحدى يديه. وكان يسرق من عسكر المسلمين وعسكر الفرنجة في يوم واحد، وكان يوقر أنا اول اليوم لص وآخره مجاهد.
ويروي أسامة بن منقذ عن الزمركل مشهدين. في المشهد الأول، يروي بن منقذ لقاءه الوحيد، وجهاً لوجه، بالزَّمَرْكَل. كان ابن منقذ خرج مع فرسان بلده شيزر، وهي مدينة صغيرة في شمال سوريا قريبة من حماة وانطاكية يحكمها عمُّه، ليحميها من سرية فرنجية كانت قد خيمت بالقرب منها. وفي الطريق رأي بنُ منقذ ومعه فارس آخر يدعى حسام الدولة، شيخاً عارياً إلا من لباس يشبه العباءة مختبئاً في كرم عنب. فقال له حسام الدولة: يا شيخ أي شي تعمل هاهنا؟ فقال الشيخ: أنتظر الظلام وأسترزق الله تعالى من خيل هؤلاء الكفار.فقال حسام الدولة: يا شيخ، أبِأسنانك تقطعهم عن خيلهم؟ قال الشيخ: لا بل بهذه السكين. وجذب سكينا من وسطه مشدودة بخيط كأنها شعلة من النار. ويكمل بن منقذ القصة فيقول: "أصبحتُ من بُكْرَةٍ رَكِبْتُ أَنْتَظِرُ ما يَكُونُ مِنَ الافرنج، وإذا الشيخُ جالسٌ في طريقي على حَجَرٍ والدَّمُ على ساقه وقدَمِه وقد جَمُدْ، قلتُ: يُهْنِئُكَ السَّلامَة، أي شيء عَمِلْتَ؟ قال الشيخ: أخذتُ منهم حصاناً وترساً ورمحاً، وَلَحِقَنِي رَاجِلٌ وأنا خارجٌ من عسكرهم، طعنني نفَّذ القنطارية (أي الحربة) في فخذي، وَسَبَقتُ بالحصان والترس والرمح. قال بن منقذ: "والشيخ مستقلُّ بالطعنة التي فيه كأنها في سواه، وهذا الرجل يقال له الزمركل من شياطين اللصوص".
أما المشهد الثاني فينقله بن منقذ عن رجل يدعى شومان من جنود إمارة دمشق . يقول شومان: نزل عسكر الفرنج على شيزر فخرجت أدور بهم لعلي أسرق حصاناً منهم، فلما أجن الظلام مشيت إلى طوالة الخيل (اصطبل الخيل)...وإذا هذا (يقصد الزمركل) جالس امامي، فقال لي: إلى أين؟ قلت: آخذ حصاناً، من هذه الطوالة. قال: وأنا من العِشاء أنظرُها حتى تأخذَ أنتَ الحصان؟!... والله ما أدعك تأخذ شيئاً. قال شومان، فلم ألتفت له ويممت إلى الطوالة، فقام وصاح بأعلى صوته: "وافقري واخيبة تعبي وسهري!" وصيَّحَ حتى خرج علينا الافرنج. فأما هو فطار، وأما أنا فطردوني حتى رميت نفسي في النهر وما ظننت أني أسلم منهم"
أزعم أن الزمركل حالة عامة، تلخصنا هذه الأيام، بطل في لحظة ولص في أخرى. إن البشر القادرين على جمال وجلال عظيمين في لحظة ما من لحظات التاريخ، قادرون على عكسها في لحظة تالية. وان القوة لا توجد الا في خيال الضعيف والحاكم لا يوجد الا في خيال المحكوم٫ فإن آمن الناس بآنفسهم فسيصيرون آبطالا وإن يئسوا وقع العكس.
لقد كان شومان المذكور هذا من عسكر معين الدين أُنُر وكان معين الدين خذل الأمة كلها حين تحالف مع الفرنجة ضد عماد الدين وابنه نور الدين زنكي ملوك حلب، وربما لهذا لم يعتبره الزمركل مجاهدا وفضحه.
وعليه دعوني أختم بقصة أخيرة من كتاب أسامة بن منقذ. هاجم الفرنج صديقهم الأمير معين الدين أُنَر. لأن المهادن غير جاهز للقتال، فهو لقمة سائغة لهم. ولما لم يكن لدى معين الدين جيش كبير، خرج أهل دمشق يدافعون عنها. ويروي بن منقذ قصة شيخين كبيرين ضعيفي البصر من الفقهاء المجاورين في دمشق خرجا للقتال، يوسف الفندلاوي من المغرب، وعبد الرحمن الحلحولي من الخليل في فلسطين. وقفا بالنبابيت خارج أسوار البلد وأمامهم عسكر الفرنج الضخم، فمر عليهم معين الدين، وقال للفندلاوي: أنت شيخ كبير أدخل البلد ونحن نكفيك، فقال له: "قد بعت، واشترى مني" يقصد الآية الكريمة : "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة". ولأن الفقيهين ضعيفا البصر، سأل الفلسطيني منهما صاحبه المغربي ليتأكد: أما هؤلاء الروم أمامنا؟ ، قال: بلى، قال: فإلى متى نحن وقوف؟ قال: سر على اسم الله تعالى... ثم هجم الشيخان على الجيش الافرنجي بنبوتين.
المهم في هذه القصة، هو أن أهل البلد انتصروا على الفرنج وانهزمت الحملة الصليبية الثانية. صحيح أن الفقيهين استشهدا، لكن الآمل كان قد ظهر في الناس مجدداً، وأكاد أجزم أن الزمركل كان مع الناس، وكان بطلاً.
مع تميم
Tamim Al-Barghouti
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق